فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومما يدل على وجوب البر إليهما قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] وقال: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه حسنًا} [العنكبوت: 8] وقال في الوالدين الكافرين: {وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وصاحبهما في الدنيا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس» وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن استأذنه في الجهاد، فقال عليه السلام: «هل لك أحد باليمن فقال أبواي فقال: أبواك أذنا لك فقال لا فقال فارجع وأستاذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما».
واعلم أن الإحسان إلى الوالدين هو أن يقوم بخدمتهما، وألا يرفع صوته عليهما، ولا يخشن في الكلام معهما، ويسعى في تحصيل مطالبهما والانفاق عليهما بقدر القدرة من البر، وأن لا يشهر عليهما سلاحا، ولا يقتلهما، قال أبو بكر الرازي: إلا أن يضطر إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله أن ترك قتله، فحينئذ يجوز له قتله؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك كان قد قتل نفسه بتمكين غيره منه، وذلك منهي عنه، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَانًا} قد تقدّم في صدر هذه السورة أن مِن الإحسان إليهما عتقَهما، ويأتي في سُبْحَان حكم برِّهما مُسْتَوْفىً.
وقرأ ابن أبي عبلة {إحسان} بالرفع أي واجب الإحسان إليهما.
الباقون بالنصب، على معنى أحسِنوا إليهما إحسانًا.
قال العلماء: فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزامِ البِرّ والطاعةِ له والإذعانِ مَن قَرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره بشكره وهما الوالدان؛ فقال تعالى: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14].
وروى شُعبة وهُشيم الواسطيّان عن يَعْلَى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رِضَى الرَّبِّ في رضى الوالدَيْن وسُخْطُه في سُخْط الوالدين». اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وبالوالدين إحسانا} اهتمام بشأن الوالدين إذ جعل الأمر بالإحسان إليهما عقب الأمر بالعبادة، كقوله: {أن اشكر لى ولوالديك} [لقمان: 14]، وقوله: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه} [لقمان: 13، 14]، ولذا قدّم معمول {إحسانًا} عليه تقديمًا للاهتمام إذ لا معنى للحصر هنا لأنّ الإحسان مكتوب على كلّ شيء، ووقع المصدر موقع الفعل.
وإنّما عدّي الإحسان بالباء لتضمينه معنى البرّ.
وشاعت تعديته بالباء في القرآن في مثل هذا.
وعندي أنّ الإحسان إنّما يعدّى بالباء إذا أريد به الإحسان المتعلّق بمعاملة الذات وتوقيرها وإكرامها، وهو معنى البرّ ولذلك جاء {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن}؛ وإذا أريد به إيصال النفع المالي عُديّ بإلى، تقول: أحْسَنَ إلى فلان، إذا وصله بمال ونحوه. اهـ.

.قال الفخر:

النوع الرابع: قوله تعالى: {وَبِذِى القربى} وهو أمر بصلة الرحم كما ذكر في أول السورة بقوله: {والأرحام} [النساء: 1].
واعلم أن الوالدين من الأقارب أيضا، إلا أن قرابة الولاد لما كانت مخصوصة بكونها أقرب القرابات وكانت مخصوصة بخواص لا تحصل في غيرها، لا جرم ميزها الله تعالى في الذكر عن سائر الأنواع، فذكر في هذه الآية قرابة الولاد، ثم أتبعها بقرابة الرحم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَبِذِى القربى} أي بصاحب القرابة من أخ وعم وخال وأولاد كل ونحو ذلك، وأعيد الباء هنا ولم يعد في البقرة قال في [البحر]: لأن هذا توصية لهذه الأمة فاعتنى به وأكد، وذلك في بني إسرائيل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وذُو القربى} صاحب القرابة، والقربى فُعلى، اسم للقُرب مصدرِ قَرُب كالرجعي، والمراد بها قرابة النسب، كما هو الغالب في هذا المركّب الإضافي: وهو قولهم: ذو القربى، وإنّما أمر بالإحسان إليه استبقاء لأواصر الودّ بين الأقارب، إذ كان العرب في الجاهلية قد حرّفوا حقوق القرابة فجعلوها سبب تنافس وتحاسد وتقاتل.
وأقوالهم في ذلك كثيرة في شعرهم؛ قال ارطأة بن سهية:
ونحو بنو عمّ على ذاكَ بيننا ** زَرَابِيّ فيها بِغْضَةٌ وتَنَافُس

وحسبك ما كان بين بَكر وتغلب في حرب البَسُوس، وهما أقارب وأصهار، وقد كان المسلمون يومَها عَرَبا قَريبي عهد بالجاهلية؛ فلذلك حثّهم على الإحسان إلى القرابة.
وكانوا يحسنون بالجار، فإذا كان من قرابتهم لم يكترثوا بالإحسان إليه، وأكّد ذلك بإعادة حرف الجرّ بعد العاطف.
ومن أجل ذلك لم تؤكّد بالباء في حكاية وصية بني إسرائيل {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} إلى قوله: {وذي القربى} [البقرة: 83] لأنّ الإسلام أكّد أوامر القرابة أكثر من غيره.
وفي الأمر بالإحسان إلى الأقارب تنبيه على أنّ من سفالة الأخلاق أن يستخفّ أحد بالقريب لأنّه قريبه، وآمِن من غوائله، ويصرف برّه وودّه إلى الأباعد ليستكفي شرّهم، أو ليُذكر في القبائل بالذكر الحسن، فإنّ النفس التي يطوّعها الشرّ، وتَدينها الشدّة، لنفس لَئيمة، وكما ورد شرّ الناس من اتّقاه الناس لشرّه فكذلك نقول: شرّ الناس من عَظَّم أحدًا لشرّه. اهـ.

.قال الفخر:

النوع الخامس: قوله: {واليتامى} واعلم أن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز: أحدهما: الصغر، والثاني: عدم المنفق، ولا شك أن من هذا حاله كان في غاية العجز واستحقاق الرحمة.
قال ابن عباس: يرفق بهم ويربيهم ويمسح رأسهم، وإن كان وصيا لهم فليبالغ في حفظ أموالهم. اهـ.
قال الفخر:
النوع السادس: قوله: {والمساكين} واعلم أنه وإن كان عديم المال إلا أنه لكبره يمكنه أن يعرض حال نفسه على الغير، فيجلب به نفعا أو يدفع به ضررا، وأما اليتيم فلا قدرة له عليه، فلهذا المعنى قدم الله اليتيم في الذكر على المسكين، والإحسان إلى المسكين إما بالإجمال إليه، أو بالرد الجميل.
كما قال تعالى: {وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 9]. اهـ.
قال الفخر:
النوع السابع: قوله: {والجار ذِى القربى} قيل: هو الذي قرب جواره، والجار الجنب هو الذي بعد جواره.
قال عليه الصلاة والسلام: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ألا وان الجوار أربعون دارًا» وكان الزهري يقول: أربعون يمنة، وأربعون يسرة، وأربعون أماما وأربعون خلفا.
وعن أبي هريرة قيل: يا رسول الله ان فلانة تصوم النهار وتصلي الليل وفي لسانها شيء يؤذي جيرانها، أي هي سليطة، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا خير فيها هي في النار» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يؤدي حق الجار إلا من رحم الله وقليل ما هم أتدرون ما حق الجار ان افتقر أغنيته وان استقرض أقرضته وان أصابه خير هنأته وان أصابه شر عزيته وان مرض عدته وان مات شيعت جنازته». وقال آخرون: عني بالجار ذي القربى: القريب النسيب، وبالجار الجنب: الجار الأجنبي، وقرئ {والجار ذا القربى} نصبا على الاختصاص، كما قرئ {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] تنبيها على عظم حقه، لأنه اجتمع فيه موجبان. الجوار والقرابة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والجار ذِي القربى والجار الجنب} أمّا الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيامِ بحقه والوصاة برعي ذمّته في كتابه وعلى لسان نبيه.
ألا تراه سبحانه أكّد ذكره بعد الوالدين والأقربين فقال تعالى: {والجار ذِي القربى} أي القريب. اهـ.

.قال الطبري:

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: والجار ذي القرابة والرحم منك.
وقال آخرون: بل هو جارُ ذي قرابتك.
وهذا القول قولٌ مخالفٌ المعروفَ من كلام العرب. وذلك أن الموصوف بأنه ذو القرابة في قوله: {والجار ذي القربى}، {الجار} دون غيره. فجعله قائل هذه المقالة جار ذي القرابة. ولو كان معنى الكلام كما قال ميمون بن مهران لقيل: وجار ذي القربى، ولم يُقَل: {والجار ذي القربى}. فكان يكون حينئذ إذا أضيف {الجار} إلى ذي القرابة الوصية ببرّ جار ذي القرابة، دون الجار ذي القربى. وأما و{الجار} بالألف واللام، فغير جائز أن يكوى ذي القربى إلا من صفة {الجار}. وإذا كان ذلك كذلك، كانت الوصية من الله في قوله: {والجار ذي القربى} ببرّ الجار ذي القربى، دون جار ذي القرابة. وكان بينًا خطأ ما قال ميمون بن مهران في ذلك.
وقال آخرون: معنى ذلك: والجار ذي القربى منكم بالإسلام.
وهذا أيضًا مما لا معنى له. وذلك أن تأويل كتاب الله تبارك وتعالى، غير جائز صرفه إلا إلى الأغلب من كلام العرب الذين نزل بلسانهم القرآن، المعروفِ فيهم، دون الأنكر الذي لا تتعارفه، إلا أن يقوم بخلاف ذلك حجة يجب التسليم لها. وإذا كان ذلك كذلك وكان معلومًا أن المتعارف من كلام العرب إذا قيل: فلان ذو قرابة، إنما يعني به: إنه قريب الرحم منه، دون القرب بالدين كان صرفه إلى القرابة بالرحم، أولى من صرفه إلى القرب بالدين. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

النوع الثامن: قوله: {والجار الجنب} وقد ذكرنا تفسيره.
قال الواحدي: الجنب نعت على وزن فعل، وأصله من الجنابة ضد القرابة وهو البعيد.
يقال: رجل جنب إذا كان غريبا متباعدًا عن أهله، ورجل أجنبي وهو البعيد منك في القرابة.
وقال تعالى: {واجنبنى وَبَنِىَّ} [إبراهيم: 35] أي بعدني، والجانبان الناحيتان لبعد كل واحد منهما عن الآخر، ومنه الجنابة من الجماع لتباعده عن الطهارة وعن حضور المساجد للصلاة ما لم يغتسل، ومنه أيضا الجنبان لبعد كل واحد منهما عن الآخر.
وروى المفضل عن عاصم: {والجار الجنب} بفتح الجيم وسكون النون وهو يحتمل معنيين: أحدهما: أنه يريد بالجنب الناحية، ويكون التقدير: والجار ذي الجنب فحذف المضاف، لأن المعنى مفهوم والآخر: أن يكون وصفا على سبيل المبالغة، كما يقال: فلان كرم وجود. اهـ.

.قال القرطبي:

{والجار الجنب} أي الغريب؛ قاله ابن عباس، وكذلك هو في اللغة.
ومنه فلان أجنبيّ، وكذلك الجنابة البعد.